Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
jebbour4ever
jebbour4ever
Publicité
Archives
2 juillet 2007

ابن خلدون: لمسات معاصرة

يمكن الإقرار بمرجعية الحديث عن فلسفة التاريخ والفلسفة الاجتماعية إلى الفلسفة اليونانية والفكر اليوناني، غير أن لابن خلدون باعاً طويلاً ودوراً تجديدياً في هذين المجالين. وقد بلغ به مقام الابتكار ودقة الطرح في فلسفة التاريخ والمجتمع والاجتماع أنه طرق بقوة وبوضوح أبواب تأسيس علم جديد حقيقي ومتميز للتاريخ وللاجتماع، وكذلك، وهذا ما لايلاحظونه عادةً للأسف، الربط بنجاح ونضوج منهجي (مع التمييز) بين فلسفة التاريخ وعلم التاريخ، بين الفلسفة المجتمعية والعلوم المجتمعية (أو علوم المجتمع)، بين فلسفة الاجتماع وعلم الاجتماع (فلسفة العمران وعلم العمران)، وكذلك الربط بين فلسفة وعلوم كل من التاريخ والمجتمع أيضاً: (اعلمْ أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم) (التشديد مني ـ م.ن).
ـ من المفاهيم المركزية لدى (ابن خلدون) مفهوم (العصبية) الذي يمكن توظيفه واستثماره في عصرنا هذا بمعنى التمتع بخصائص وسمات الإيجابية والفعالية والنشاط والحراك والمبادرة ـ المبادهة والإتقان..إلخ، وما يُلازم ذلك من أخلاقيات وقيم إيجابية فعّالة حركية دينامية ومن ممارسات خلاقة، ولا سيما أنه يربط التمتع بالعصبية بكل وبأي إنجاز حقيقي وأي تغيير وتجديد وأي نجاح، وهذه الفكرة وهذا المفهوم المركزي الهام خلدونياً قابلان للتوظيف والاستثمار والتراثي ـ الراهني الآن.
ـ من ناحية أخرى اشتهر ابن خلدون بوصفه مؤسساً (لعلم العمران) الذي صار يسمى (علم الاجتماع) لاحقاً، وبخلاف ذلك فقد وجدتُ منذ القراءة الأولية لمقدمته أنه ليس مؤسس علم (العمران) بمنطوقه التقليدي هذا فحسب، بل وعلم (الاجتماع) باسمه الدارج ذاته حالياً، لكثرة حديثه فعلياً عن (الاجتماع) و(الاجتماعي الإنساني)..إلخ في كل مكان وعن (طبيعة الاجتماع).
ـ بعكس آراء (ميكيافيلّي) في (الأمير) وتسويق فكرة (الغاية تبرّر الوسيلة)، نجد ابن خلدون مدافعاً عن أخلاقيات ممارسة السلطة، وعن ارتباطها بالمثل والقيم النبيلة نجاحاً أو إخفاقاً على السواء: (من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس)، وهذا يشبه في وقتنا الحاضر بعض الطروح الحديثة الريادية التي تتحدث عن (الإدارة بالقيم) على منوال (الإدارة بالأهداف) (النبيلة هنا).
ـ لابن خلدون جهود حثيثة ثرّة في مجال السياسة والتنظير للدولة وأطوارها وعلاقة الدولة بالأمة، وكذلك علاقة العرب بالسياسة، وقد بين أن غياب الدولة والسلطة يقود إلى تغييب الأمة: (الأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء)، وفي هذا الإطار يحتفظ تقييم/ تقويم ابن خلدون لأخلاق العرب السياسية براهنيته الآن أيضاً في باب فهم ما سمّاه (غوستاف لوبون) (روح الجماعات)، أو ما تسميه أدبيات علم النفس المعاصر بـ (سيكولوجيا الشعوب)، أو في إطار ما يقع ضمن اهتمامات علم الإنسان (الإنتربولوجيا) والإثنيات..إلخ.
وقد وصف ابن خلدون علاقة العرب بالسياسة والسلطة كما يلي: (العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك)، وقد لحظ اصطباغ اشتغال العرب بهذه الأمور (بالصبغة الدينية)، ونوّه إلى التباس السياسة (بالنبوة والولاية) عندهم، وإلى عظم تأثير الدين على كل شيء: (أثر عظيم من الدين على الجملة).
وحين يتحدث عن (طبيعة الملك) وما يسم هذا الملك (من ترف) و(انفراد بالمجد) وعلاقة ذلك بظاهرة (هرم) الدولة يحاول ابن خدلون قنونة (أو قوننة) الظواهر الاجتماعية ـ التاريخية، وهذا بحد ذاته نصر للفكر الواقعي ولإعمال العقل والنظر والمنهجيات العلمية بغض النظر عن التجسدات الملموسة والطروح المحددة التي لا تخلو من مطبات وهنات واضحة: ولا سيما ذلك الخلط بين البيولوجي والاجتماعي والمداخلة بينهما، وهو الخلل المنهجي والعلمي الذي تبلور منذ ومع أفلاطون في (جمهوريته)عند مقارنة بنية الدولة ببنية الجسد، والكيان البشري في جمهوريته كلها بالكامل، واستمر خلل كهذا عند كثير من المفكرين حتى وقتنا هذا. وهذا الخلل والالتباس واضح لدى ابن خلدون: (الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص)، بينما نحن في أمس الحاجة إلى تمييز وبيان خصوصية قوانين كل من الحياة الاجتماعية والحياة الطبيعية.
ـ ولصاحب (المقدمة) آراء هامة في العلاقة بين السياسة والاقتصاد مجسدة في تطرقه لمسألة (الفساد)، مع تفاصيل ثرّة حول علاقة السلطة بالفساد والظلم، وعلاقة التجارة بالسلطة، وأن (التجارة مفسدة للسلطة)، وصلة ذلك كله بانهيار الدول و(العمران). وكان رأيه واضحاً وناضجاً: (التجارة من السلطان)، (مضرة بالرعايا) و(مفسدة للجباية)، كما أن (الظلم مؤذن بخراب العمران)، وهنا يبدي ابن خلدون براعات اقتصادية، سياسية إشراقية في حديثه عن (الاحتكار) واستخلاص ما يشبه مفاهيمنا الحالية حول أن البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة من السوق، وذلك بعد أن ربط ابن خلدون بين العمل/ أو الكسب/ والقيمة: (الكسب هو قيمة الأعمال البشرية)، وقد لا نحتاج إلى التذكير أن هذا ما يطابقه تماماً الفكر الاقتصادي لكارل ماركس في صلبه وجوهره ـ أعني الربط أساساً بين العمل والقيمة وجعل قيمة البضائع (السلع... الأشياء..إلخ) تختزن كمية العمل الاجتماعي المبذول فيها.
كان ابن خلدون ريادياً في مقدمته في معالجة مسألة أصل ونشأة اللغة بعقل علمي وفكر علمي غير غيبي: (اللغة ملكة صناعية)، كما كان منظراً طليعياً في حديثه عن (العقل التجريبي) قبل تجريبية أوربا، وقبل (العقل العملي) ونقده عند كانط. ويستحق الاهتمام والتوقف لدى ابن خلدون بيانه أهمية وأسبقية الفكر في عالم (الاجتماع الإنساني) على (الحوادث)، وريادة هذا الفكر في صياغة الممارسة والتطبيق: (عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر).
وفي المقدمة كلام مبكر حول تصنيف العلوم أو (العلوم وأصنافها) وهذا ما بات يدرس الآن في إطار تخصصي في (علم العلم) ومشتقاته وفروع العديدة المعاصرة. وكلام آخر حول طرق التعليم أو (التعليم وطرقه)، وكذلك أنواع التعليم أو (سائر وجوهه). وثمة كلام أكثر إيغالاً في التفصيل في تحديد مواصفات وأخلاق العلماء وعلاقتهم بالسياسة. وهذه قضية لا تزال راهنة الآن لكثرة الحديث حاضراً عن العلاقة بين العلم والسياسة. ومما يستحق التحية والتمجيد انحياز ابن خلدون منذ ذلك الزمن، وبابتكار حينها، إلى طرائق مبتكرة غير تقليدية ولا محافظة في التربية والتعليم وصياغة طرائق مجافية ومنافية للعنف: (الشدة على المتعلمين مضرة بهم).
لدينا إذاً مساهمات متميزة في مجال علم العلم (الاختصاص المتبلور حديثاً منتصف القرن العشرين) والعلوم التربوية إجمالاً، ولا سيما سوسيولوجيات (أو علوم اجتماع) هذه الحقول المعرفية، التي تطورت كثيراً الآن ولا شك، إذ صار من بديهيات معارفنا وأعمالنا في مجالات وحقول كهذه الدخول في تفاصيل وفروع تخصصية أصيلة وناضجة أمثال: سوسيولوجيا التربية والتعليم (أو ما يعرف عندنا بعلم الاجتماع التربوي) جنباً إلى جنب مع سوسيولوجيا العلم (علم اجتماع العلم)، وكل أولئك في إطار علم الاجتماع المعرفي (أو ع.اِ. المعرفة)، وهؤلاء جميعاً في الإطار الأشمل والأوسع المعروف منذ بضع سنوات وعقود بسوسيولوجيا (أو علم اجتماع) المعلومات.

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité